إنّ ممّا يحكم العقل بقبحه ويشهد له العادلان : الوجدان والضمير بذلك هو أن يتحدث الإنسان بما لا يعلم ، كأن ينقل خبراً دون تثبت ، أو يطلق حكمه على فلان دون علم ، وغير ذلك فعنهم ( عليهم السلام ) : ( لا تقل ما لا تعلم ، ولا تقل كل ما تعلم ، فإنّ الله سبحانه قد فرض على جوارحك كلّها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة ) .
سئل أبو جعفر ( عليه السلام ) : ما حق الله على العباد ؟ قال ( عليه السلام ) : ( أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون ) .
وعنه ( عليه السلام ) أنّه قال : ( إنّي لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلاً على مقدار علمه ، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلاً على مقدار عقله ) ، وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله .
قيل للخليل بن أحمد ـ وقد اجتمع بابن المقفع ـ : كيف رأيته ؟ فقال : لسانه أرجح من عقله . وقيل لابن المقفع : كيف رأيت الخليل ؟ قال : عقله أرجح من لسانه . فكان عاقبتهما أن عاش الخليل مصوناً مكرماً ، وقتل ابن المقفع تلك القتلة الفظيعة .
وجاء في وصفهم كان لي في ما مضى أخ في الله وكان يفعل ما يقول .
بم تجيب إذا كنت لا تعلم ؟
قد يسأل الإنسان سؤالاًً ، وهو لا يعرف الإجابة ، والمسؤولية تملي على الإنسان في مثل هذه المواقف أن يدير ظهره لهواجس نفسه وأنانيته ويقول بكل شجاعة : لا أدري .
ومن وصايا النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأبي ذر ـ : ( يا أبا ذر إذا سئلت عن علم لا تعلمه فقل : لا أعلمه تنج من تبعته ، ولا تفت بما لا علم لك به تنج من عذاب الله يوم القيامة ) .
وتزداد المسؤولية إذا كان السؤال شرعياً ، وبالأخص إذا كان موجّهاً لطالب العلم .
وقال بعض الأكابر : لا أدري نصف العلم ، ومن سكت لله تعالى حيث لا يدري فليس أقل أجراً ممّن نطق بعلم ، لأنّ الاعتراف بالنقص أشد على النفس .
ولم تقتصر الروايات على الأمر بـ ( لا أدري ) ، بل حذّرت حتّى من الإجابة بـ ( الله أعلم ) .
فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا سئل الرجل منكم عمّا لا يعلم فليقل : لا أدري ، ولا يقل : الله أعلم ، فيوقع في قلب صاحبه شكا ، وإذا قال المسؤول : لا أدري فلا يتهمه السائل ) .
ولا عيب في أن يقول لا أدري ، فعن الإمام علي ( عليه السلام ) : ( لا يستحيي العالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : لا علم لي به ) .
وعنه ( عليه السلام ) : ( قول لا أعلم نصف العلم ) .
أما من يجيب عن كل ما يسأل فهو إمّا عالم بحق أو مسكين غافل ، يهرب من قول الناس بأنّه لا يعلم فيقع في قولهم بأنّه مكابر أو متحايل ، وربما شمله قول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّ من أجاب في كل ما يسأل عنه لمجنون ) .
عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر ـ أحد فقهاء المدينة المتفق على علمه وفقهه بين المسلمين ـ أنّه سئل عن شئ فقال : لا أحسنه ، فقال السائل : إنّي جئت إليك لا أعرف غيرك !. فقال القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه ، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه : يا ابن أخي ألزمها !، فقال : فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم !، فقال القاسم : والله لأن يقطع لساني أحب إليّ أن أتكلّم بما لا علم لي به !.
نعم وردت رواية في حق العالم أن يقول الله أعلم ، فعن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( للعالم إذا سئل عن شئ وهو لا يعلمه أن يقول : الله أعلم ، وليس لغير العالم أن يقول ذلك ) .
وعنه ( عليه السلام ) : ( ما علمتم فقولوا ، وما لم تعلموا فقولوا : الله أعلم ، إنّ الرجل لينتزع بالآية من القرآن يخر فيها أبعد من السماء ) .
الإفتاء بغير علم :
تختص الفتوى بمزيد عناية ومسؤولية خاصة أمام الله تعالى ، إذ أنّها حكم شرعي يترتّب عليه العمل العبادي الذي يرجى أن يكون مطابقاً لحكم الله ، بل قد تتخطى ذلك إلى المساس بعقائد الناس ، إذ أنّهم كثيراً ما يسألون العلماء عن عقائدهم فيأخذوها منهم .
وقد ورد التحذير من الإفتاء بغير علم ، بل قد يعد ذلك كذباً على الله تبارك وتعالى ، ففي الكتاب المجيد : { ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين } .
{ وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم } .
{ ومن أظلم ممّن افترى على الله كذبا أو كذّب بآياته } .
{ ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة } .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( اتقوا تكذيب الله ) ، قيل : يا رسول الله ! وكيف ذاك ؟ قال : ( يقول أحدكم : قال الله ، فيقول الله : كذبت لم أقله ، أو يقول : لم يقل الله ، فيقول عز وجل : كذبت قد قلته ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( من أفتى الناس بغير علم ، كان ما يفسده من الدين أكثر ممّا يصلحه ) .
وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : ( من أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ ، والمحكم من المتشابه ، فقد هلك وأهلك ) .
وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : ( من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض ) .
وعنه ( صلى الله عليه وآله ) : ( من أفتي بفتيا بغير ثبت ، فإنّما إثمه على من أفتاه ) .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله ، لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه ) .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( من أفتى الناس برأيه فقد دان بما لا يعلم ، ومن دان بما لا يعلم فقد ضاد الله حيث أحل وحرم فيما لا يعلم ) .
وعنه ( عليه السلام ) : ( إياك أن تفتي الناس برأيك ، أو تدين بما لا تعلم ) .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ( لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأصول علم عندنا ، نتوارثها كابراً عن كابر ) .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار ) .
الصمت عند الشبهة :
وكمّا حذّرت الروايات عن الإفتاء بغير علم ، فقد حثّت الروايات على لزوم الصمت عند الشبهة بكل مواردها ، سواء كانت الشبهة كما هي في بعض الفتن أو بعض المواقف التي يبنيها الناس على الظن ، أو الاشتباه في الحكم الشرعي أو غير ذلك ، فعلى العاقل أن يلزم الصمت في الشبهات حتّى تنجلي غبرتها .
فمن وصايا الإمام علي لابنه الحسن ( عليهما السلام ) : ( أوصيك يا حسن وكفى بك وصيا بما أوصاني به رسول الله ... الصمت عند الشبهة ) .
قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) لما سأله زرارة عن حق الله على العباد ؟ : ( أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون ) .
ومن وصايا الإمام علي ( عليه السلام ) عند وفاته :
وعنه ( عليه السلام ) : ( أوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها ، والزكاة في أهلها عند محلّها ، والصمت عند الشبهة ، وأنهاك عن التسرّع بالقول والفعل ، والزم الصمت تسلم ) .
وممّا يبرز أهمّية هذه الوصية أنّها عند الموت . إذ أنّ الإنسان في تلك اللحظات الحرجة لا يهتم إلاّ بأعظم وأهم ما يريد ، فكيف بعظيم وحكيم كخليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسيّد الموحّدين : فتراه يوصي بالصلاة والزكاة والصمت عند الشبهة ، وعدم التسرّع والصمت ، وهذه الوصية وكونها عند الوفاة أكبر دليل على أهمّية الصمت .